الأحد، ديسمبر 13، 2009

المحتوي الرقمي الي اين

يبدو واضحاً اليوم أننا إزاء شكل جديد من التطور المجتمعي يعتمد في سيطرته ونفوذه على المعرفة عموماً والعلمية منها بشكل خاص. مثلما يعتمد على كفاءة استخدام المعلومات في كل مجالات الحياة، حيث يتعاظم فيه دور صناعة المعلومات بوصفها الركيزة الأساسية في بناء الاقتصادات الحديثة، وتتعزز فيه مكانة الأنشطة المعرفية لتتبوأ أكثر الأماكن حساسية وتأثيراً في منظومة الإنتاج الاجتماعي. وغالباً ما يطلق على هذا التحول وبصورة خاطئة (عصر ثورة المعلومات)، ذلك لأن المعلومات لا تشكل إلا جزءاً من الثورة المعرفية التي تقوم على العلم والتقدم التكنولوجي في مجالات البيولوجيا ونظريات “الكم” وميادين المعلومات والاتصالات والتفاعل المستمر بين هذه الحقول الثلاثة.
وكان التطور الأبرز في هذا المشهد ظهور نمط معرفي جديد يسمى (اقتصاد المعرفة) يقوم على وعي أكثر عمقاً لدور المعرفة والرأسمال البشري في تطور الاقتصاد وتنمية المجتمعات.
فقد أصبحت المعرفة مورداً اقتصادياً يفوق بأهميته الموارد الاقتصادية الطبيعية، بل إن القيمة المضافة الناتجة عن العمل في التكنولوجيا كثيفة المعرفة تفوق بعشرات وربما مئات المرات القيمة المضافة الناتجة عن العمل في الزراعة أو الصناعة التقليديتين، فقد زاد حجم السوق العالمية للمعلوماتية عن /1/ تريليون دولار منذ عام (2000)م.
ترتب على هذه التحولات نتائج وآثار مباشرة وبعيدة المدى في آن. فلم تعد المعرفة سلطة وقوة فقط، بل أصبحت أبرز مظاهر القوة في عالم اليوم ولم يعد مجدياً بالنسبة للدول والمجتمعات التي تحاول تنمية اقتصاداتها واللحاق بركب التقدم العلمي تجاهل هذه الحقائق أو التأخر في أخذها بالحسبان.
ولعل في رأس هذه الأولويات، إجراء زيادات حاسمة في الإنفاق المخصص لتعزيز إنتاج ونشر المعرفة، وخصوصاً في مجالات التعليم بمراحله المختلفة والبحث العلمي بمراكزه وميزانياته فضلاً عن استراتيجيات بناء القدرات البشرية، بما في ذلك إعداد الخبراء والباحثين وتشجيع الابتكار وبراءات الاختراع وحماية المتفوقين.
وإذا اكتفينا بميدان الإنفاق على البحث العلمي نظراً لأهميته فإننا سنجد أن الدول الصناعية المتقدمة تنفق ما نسبته (2.5ــ3)% من ناتجها القومي الإجمالي على البحث العلمي كما في “اليابان” و”الولايات المتحدة الأمريكية” و”ألمانيا”. بينما لا تزيد نسبة ما تخصصه البلدان العربية مجتمعة للبحث العلمي عن (1)% من متوسط ناتجها القومي الإجمالي، علماً أن هذا المبلغ على ضآلته يدفع غالبيته كرواتب.
فإنتاج ونشر المعرفة في البلدان العربية ما زال يعاني من جملة صعوبات تتمثل في نقص الدعم المؤسسي وعدم توافر البيئة المناسبة لتشجيع العلم، إضافة إلى انخفاض أعداد المؤهلين للعمل في البحث والتطوير الأمر الذي يتطلب إعادة هيكلة الإنفاق العام وتحديد الأولويات التنموية على ضوء المتغيرات
مجتمع المعرفة والاقتصادات المبنية على المعرفة مرحلة نوعية في تاريخ البشرية تجعل من المعرفة مورداً لا ينضب تسعى المجتمعات والدول لاكتسابه والاستفادة من المزايا التي يوفرها لمنتجيه. فالغني اليوم ليس غني الأموال فقط بل غني المعرفة، والفقير أيضاً ليس فقير الدخل فقط، بل فقير المعلومات، هذا إضافة إلى العلاقة المؤكدة التي تربط بين ارتفاع الدخل وتحسن المعارف والعكس بالعكس. تدلل المؤشرات المتوفرة عالمياً على أن حجم صناعة المعلومات قد تجاوز(3) تريليون دولار سنوياً، وهذه النسبة تشكل (50ــ60)% من الناتج القومي للدول الصناعية الكبرى، كما يقدر حجم التجارة الإلكترونية بـ (1) تريليون دولار، فالبورصات الإلكترونية والإعلان والتسويق والتوزيع على الإنترنت أشبه بحمى تجتاح العالم وتترك عليه بصماتها الواضحة.
وشيئاً فشيئاً بدأت الثروة تأخذ مفهوماً رمزياً مختلفاً عما هو مألوف، وتغيرت المقاييس والمفاهيم، فبعد أن منحت الثقة إلى الذهب والفضة ثم إلى الأوراق النقدية، توصل العالم إلى قناعة مختلفة مفادها أن الإشارات الإلكترونية المتناهية الصغر يمكن مقايضتها مقابل سلع أو خدمات. ومع تنامي قطاع المعلومات لم تعد الثروة تعبر عن موجودات صلبة وملموسة كالأرض والمصانع بل أصبحت أسهماً في شركات وتكتلات اقتصادية تستمد ثروتها من الإمكانات المعرفية الموجودة في عقول القائمين عليها. فالمساهم إذاً لا يشتري أصولاً واضحة، لكنه يشتري القدرة التنظيمية والتسويقية والفكرية لهذه الشركات، وعليه فإن رأس المال يكاد يكون شيئاً رمزياً أو ما بعد رمزي، فالأسهم وبطاقات الائتمان المحوسبة والتدفقات المالية عبر الشبكة قد حولت الثروة أو مصدرها الرئيسي من الأشياء إلى الأفكار، ومن الموجودات إلى الكفاءة والخبرة والابتكار.
ما يميز اقتصاد المعرفة إذاً الاعتماد المتزايد على قوة العمل المؤهلة والمتخصصة في مختلف ميادين الحياة، إلى جانب انتقال التنظيم الاقتصادي من الاعتماد على إنتاج السلع إلى إنتاج الخدمات.
فحوالي (70)% من القوة العاملة في “كندا” و”الولايات المتحدة” و”اليابان” تعمل في ميدان الخدمات. لكن أسلوب إنتاج المعلومة ونشرها واستنساخها قد قلل الفوارق بين السلع والخدمات. والمعلومة التي تشكل قوام مجتمع المعرفة أدت إلى اختلاف وتداخلات بين اقتصاد السلع واقتصاد الخدمات، ودمجتهما. (3)
وبالرغم من أن المجتمع العربي لا يزال مستخدماً لمنتجات التكنولوجيا أكثر منه منتجاً لها، فإن العرب يمتلكون أهم مقومات النجاح للدخول في مجتمع المعرفة، وهو الكادر البشري المتعلم والقابل للمواكبة والتطور، كما يمتلكون الرأسمال الضروري للنهوض بمؤسسات التعليم العالي ومراكز البحث العلمي، ولا ينقصهم سوى الإدارة الكافية لتوفير البيئة التنظيمية والمناخ المجتمعي الذي يشجع على البحث والابتكار، لأن المواهب الفردية ـ على أهميتها ـ لا تستطيع العمل والمنافسة في بيئة إقليمية ودولية
*خصائص مجتمع المعرفة:
1- الانفجار المعرفي:
يعيش العالم انفجاراً معرفياً غير مسبوق، بحيث يندر أن يمر يوم أو شهر دون أن تحمل لنا وسائل الإعلام اكتشافات جديدة، فأصبح التراكم المعرفي يتضاعف كل (18)شهرا ويكفي أن نعرف أنه في عام (1500)م عندما اخترع “غوتنبرغ” المطبعة كان إنتاج “أوروبا” لا يتجاوز (1000)عنوان سنوياً، بينما يزيد الآن (1000) عنوان يومياً. وإن 90% من العلماء الذين أنجبتهم البشرية خلال كامل تاريخها يعيشون الآن بيننا. كما أن غالبية هؤلاء أي أكثر من 90% منهم يعملون في البلدان المتقدمة. وتشير المعطيات إلى أن البشرية قد راكمت في العقدين الأخيرين من المعارف مقدار ما راكمته طوال الآلاف السنين السابقة التي شكّلت التاريخ الحضاري للإنسانية.
2- التسارع:
كان التغير وما يزال سُنة الكون وقانون الوجود الأبرز. وحيث أن التغير في فجر التاريخ كان بطيئاً وغير ملحوظ، فإن سمته الحالية هي السرعة المتزايدة. فإنه حالياً يتسم بتزايد سرعته باستمرار. ومن أمثلة هذا التسارع سرعة المواصلات والنقل. فبعد أن كانت أقصى سرعة للإنسان عند اختراع العجلة/ الدولاب سنة 1600ق.م حوالي 20كم/ ساعة أصبحت بعد اكتشاف البخار سنة 1825 حوالي 100كم/ ساعة، ووصلت السرعة في أواخر القرن العشرين إلى 500كم/ ساعة في قاطرات الوسادة المغناطيسية، ثم وصلت السرعة إلى أكثر من 50.000 كم/ ساعة بالصواريخ
أما على مستوى نقل معطيات الصوت والصورة بواسطة الأنظمة الرقمية (Digital) فقد أصبح نقلها وبسرعة الضوء البالغة 390.000 كم/ثا إلى أي مكان أمراً عادياً.
من ناحية أخرى تقلصت الفترة الزمنية الفاصلة بين ظهور الفكرة وبين تطبيقها. فقد ظهرت فكرة التصوير الشمسي عام 1727 ولم يتمكن أحد من وضعها في التطبيق قبل عام 1839 أي بعد 112 سنة، بينما تقلصت الفترة الفاصلة بين الاكتشاف وتطبيقه إلى سنتين في حالة الترانزيستور في أول خمسينات القرن العشرين، وهي الآن لا تتجاوز بضعة أشهر لمعظم الأفكار الجديدة، ناهيك عن تقلص الفترة الزمنية بين ظهور الفكرة وتطبيقها.
3- التطور التكنولوجي:
وعند الحديث عن تطبيق الأفكار وتحويلها إلى أدوات وسلع وخدمات فإننا نقصد بذلك “التكنولوجيا” التي التكنولوجيا بالطبيعة الاقتحامية التي تمكنها من اقتحام المجتمعات بغض النظر عن الحاجة إليها.
وغالباً ما تكون التكنولوجيا الأحدث أحسن أداء وأرخص سعراً وأصغر حجماً وأخف وزناً وأكثر تقدماً وتعقيداً من سابقتها. كما أن المعرفة والمعلومات اللازمة لإنتاجها أكثر كثافة وتتطلب ارتفاعاً متزايداً للقدرات البشرية من علماء ومطورين وتقنيين. وكلما كانت التقنية أحدث كانت إيجابيتها أكثر من حيث الأداء، السعر، والحجم..
ولعل من أهم التطورات التكنولوجية التي شهدها العالم في العقود الأخيرة:
- طيران مفرط الصوتية (5) أضعاف سرعة الصوت.
- الهندسة الجينية والتقانة الحيوية بآفاقها الواعدة (الاستنساخ).
- مواد مخلفة جديدة لم تكن موجودة في الطبيعة كـ (الألياف الضوئية، البلورات السائلة، الخزفيات عالية التوصيل وألياف الكربون وتطبيقات الليزر…) وغيرها.
- الاندماج بين ثورة الاتصالات والكمبيوتر مع إمكانية الاتصال اللحظي التي تسمح بالحوار عبر المحيطات.
- تزايد إنتاج وتوليد المعرفة واكتشافها المتواصل من الخزان اللانهائي (الطبيعة) والاعتماد على هذه المعرفة في إنتاج وتوليد السلع والخدمات.
وبشكل مختصر تم اكتشاف القوانين الأساسية للعلم في مجالات المادة والحياة والعقل من خلال تحطيم نواة الذرة، وفك شيفرة نواة الخلية الحية، وتطوير الكمبيوتر الإلكتروني وما سبقهما من اكتشاف لقوانين الكم/ الكوانتم على يد اينشتاين وهايزنبرغ.
ومن الواضح أن هذه الحقول الثلاثة التي تشكل أعمدة العلم الحديث قد فتحت آفاقاً غير مسبوقة من إمكانات التقدم في المستقبل.
4- انهيار الفواصل الجغرافية والتنافس في الوقت:
أصبح التنافس في الوقت والعمل في الزمن الحقيقي في كل مواقع العمل والخدمات التي تعمل بلا توقف لتلبية احتياجات المستهلكين في جميع أنحاء العالم هو السمة الأبرز للإنتاج بالرغم من الفواصل الزمنية واختلاف التوقيت. فلم تعد البنوك تغلق أبوابها بعد انتهاء ساعات العمل المحددة وكذلك المكتبات والبورصة وشركات السياحة والطيران.. بمعنى أنه لم تعد هناك حدود زمنية لتوفير الخدمات والمنتجات. وأصبح الناس في تنافس مفتوح في الفاعلية والوقت.
أما الصعوبة الثانية التي تواجه البحث العلمي فهي انخفاض معدلات الإنفاق على البحث والتطوير بشكل ملفت رغم كل الأموال العربية المقيمة والمهاجرة. إذ لا يتجاوز الإنفاق على البحث العلمي /2/% من إجمالي الدخل المحلي يصرف في غالبيته كرواتب، بينما تنفق “السويد” /3.02/% تليها “اليابان” بنسبة /2.84/% و”الولايات المتحدة الأمريكية” /2.68/%. والنسبة الضخمة من الإنفاق على البحث العلمي والتطوير في البلدان المتقدمة تأتي من قطاع الأعمال والشركات الكبرى وهي على التوالي /72/% في “أمريكا” و/66/% في “اليابان” و”ألمانيا” و/65/% في “إنكلترا” و/62/% في “فرنسا”.
ويصل إنفاق “الولايات المتحدة” منذ عام (1997)م على البحث العلمي /179.126/ مليار دولار مقابل /133.021/ مليار دولار لليابان و/ 55.003/ مليار لـ “ألمانيا” وصولاً إلى /3.425/ لـ “الصين”. (6)
على صعيد آخر تغيرت طبيعة الوظيفة والعمل عما كان عليه الحال في عصر الصناعة. فبعد أن كانت الحالة تتطلب انتقال طالب الخدمة إلى مؤدي الخدمة في مكتبه أو معمله أو جامعته أو عيادته، غدا بالإمكان الحصول على الخدمات من خلال عالم أساسه “اتصل ولا تنتقل”، فالجامعة الافتراضية والعيادة التي تقدم الاستشارات والعلاج عن بعد، والتجارة الإلكترونية، والعمل في المنزل، غيرت المفهوم التقليدي للعمل والوظيفة.
5- ارتفاع المكونات المعرفية وتضاؤل المكونات المادية:
تتميز المنتجات الجديدة بتوظيف كثيف للمعلومات والمعارف وتتضاءل شيئاً فشيئاً قيمة المكونات المادية. فبعد أن كانت الأجزاء المادية تشكّل /30/% من قيمة المنتج، فإنها وصلت إلى حوالي /10/% اليوم وينتظر أن تنخفض إلى أقل من /2/% عام (2010).
تعود الأسباب الكامنة وراء هذا التحول إلى المواد الجديدة المخلّقة وإلى تزايد قيمة المكون المعرفي في المنتج، وقبل كل ذلك تعود إلى ارتفاع تكلفة البحث والتطوير اللازمة لتوفير منتجات جديدة تأخذ بعين الاعتبار معيار الجودة كأساس للمنافسة.
سوف يترتب على هذه التحولات التي تقلل من شأن المنتجات المادية والمصادر الطبيعية الأمر الذي سيزيد من هامشية الدول والبلدان التي تعتمد في ثروتها على هذه الموارد والمصادر وذلك بسبب الانخفاض المتواصل للقيمة المضافة في هذه المنتجات مقابل الزيادات المتواصلة والحاسمة في القيمة المضافة للمنتجات كثيفة المعرفة كما في البرمجيات والذكاء الصناعي والتكنولوجيا الحيوية وغيرها. وفي هذه الخاصية تحديداً ينفتح الحديث عن (اقتصاد المعرفة). فما المقصود باقتصاد المعرفة وما هي الآفاق التي يفتحها؟
*نموذج إرشادي جديد:
لا تقتصر نتائج التحولات المرافقة لعصر المعرفة ومجتمع المعلومات على ما يمكن أن ينتج عنها من آثار مباشرة أو غير مباشرة فحسب، بل تتصل بتغيّر المرجعيات والأسس والقواعد التي يرتكز عليها تطور المعرفة نفسه.
في تفسيره لآلية حدوث الثورات العلمية يقدّم “توماس كون” في كتابه الشهير (بنية الثورات العلمية) لإجابته باقتراح مفاده أن نغيّر نظرتنا إلى تاريخ العلم ولا نراه “على أنه وعاء لأحداث متتابعة زمنياً ومن ثم تراكمياً” لأن تغيير النظرة يستتبعه تحوّل حاسم في تصور العلم. والصورة البديلة أو الجديدة هي تمايز بين مرحلتين أو شكلين من تطور العلم داخل إطار حاكم يشكّل ((نموذجاً إرشادياً)) (Paradigm) قوامه شبكة محكّمة من الالتزامات المفاهيمية والمنهجية. هذا التمايز سيفضي إلى مرحلة ثانية هي مرحلة الثورة العلمية، حيث يتم استبدال النموذج الإرشادي القديم بآخر جديد تتغير معه صورة الوقائع ومعايير القبول والرفض في أوساط الجماعة العلمية.
هكذا تشكّل كل نظرية أو مجموعة نظريات علمية نموذجاً إرشادياً وهو بمثابة الإطار النظري والمرجعي للقواعد والمعايير والمفاهيم التي تنطوي عليها النظرية، إضافة إلى مجموعة من الشروط الاجتماعية والنفسية والتاريخية. لكنّ هذه النظريات التي يؤطرها نموذج إرشادي واحد، غالباً ما تحتوي على بعض الثغرات والنواقص والعيوب. وفي مجال الجهد المبذول لحلها أو تلافيها تبدأ عناصر تكون بداية نموذج إرشادي آخر بالتكوّن في قلب النموذج القديم وتولد نظريات جديدة إما بشكل تدريجي متسلسل وتراكمي أو بشكل طفروي وفجائي على نمط القطيعة المعرفية (Epistemology Break)، وتأتي الثورات العلمية الجديدة كإجابات لأسئلة قديمة أو ردود على أسئلة متوالدة تسهم في تقديم الحلول والتفسيرات لمستجدات الحياة العلمية، والتي لم تعثر حتى لحظة ولادة النموذج الإرشادي الجديد على الإجابات الكافية.
وقد بات في حكم المؤكد أن التطورات العلمية المتسارعة قد أربكت وربما تجاوزت لا تفسيرات “كون” وحدها، بل فلسفة العلم برمتها والتي أصبحت مطالبة بتقديم العديد من الإجابات المختلفة التي لا تقتصر على ميدان العلم بذاته، بل تطال الإنسان والمجتمع عموماً. ويكفي لاكتشاف محدودية إجاباتنا الجاهزة أن نتوقف عندما يطرحه علينا الاستنساخ (Cooling) من أسئلة وشكوك ومخاوف، الأمر الذي يمتد ليشمل تصوراتنا عن مستقبل الذكاء الصناعي وعن أجهزة الإنسان الآلي ذات الوعي الذاتي والتي يتوقع أن تمتلك قدر من الإدراك الذاتي وإمكانية تطوير نفسها تلقائياً وبمعزل عن رغبة أو سيطرة الإنسان. ما الذي يمكن أن يحدث عندما تفترق مصالح الإنسان الآلي عن مصالح البشر؟ هنا يصطدم الذكاء الصناعي مع الخيال العلمي لأننا نتعامل مع آلات تمتلك إرادة مستقلة ومزودة بقدرات عقلية وفيزيائية جبارة قد تتفوق بسهولة على قدراتنا. والميزة التي يمكن أن تمتلكها، أن باستطاعتها في الطور الخامس من الآلات الحاسوبية، أن تعدّل أوامرنا البشرية مستخلصة استراتيجيات لم تخطر ببال مخترعيها من البشر. وسيفتح هذا على الأرجح حقولاً جديدة للعلم والصناعة. لكن المشكلة أنها يمكن أيضاً أن تتناقض مع إرادة البشر وأوامرهم وتشكل خطراً على وجودهم.
* قوة المعرفة في العالم العربي:
لقد بات واضحاً أن التقدم الحاصل في التكنولوجيا والتغير السريع الذي تحدثه في الاقتصاد يؤثران ليس فقط في درجة النمو وسرعته فحسب، بل في نوعية حياة الإنسان (Quality of life) باعتبارها مؤشراً حاسماً على وجود تنمية بشرية قابلة للبقاء. فثورة التكنولوجيا ولا سيما في ميدان الاتصالات والإنترنت، أخذت تؤثر مباشرة على تعليم الإنسان وتربيته وتدريبه، وتجعل من عامل السرعة في التأقلم مع التغيير من أهم العوامل الإنتاجية. فالمجتمع الذي لا يسعى إلى مواكبة التطور العلمي، شأنه شأن الإنسان، سرعان ما سيجد نفسه عاجزاً عن دخول الاقتصاد الجديد (اقتصاد المعرفة) والمساهمة فيه. والدول التي لم تدرك بعد أن المعرفة هي العامل الأكثر أهمية للانتقال من التخلف إلى التطور، ومن الفقر إلى الغنى، وبالمعنى التنموي للعبارة أي فقر الدخل وفقر القدرات، ستجد نفسها على هامش التحولات، بل والمتضرر الأكبر منها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: أين نحن كمجتمع عربي وكبلدان من هذا التطور العاصف للعلم والتكنولوجيا، ومن هذا الاتساع المتواصل لنطاق المعرفة ودورها. ثم ما هو مستقبل العالم العربي داخل مجتمع المعرفة العالمي؟
تفترض الإجابة المتأنية على السؤال المركب السابق الانطلاق من التعرّف على واقع قوة المعرفة في العالم العربي، وذلك من خلال التوصيف التحليلي لحالة مؤسسات إنتاج ونشر المعرفة في واقعها الحالي وفي احتمالات تطورها المستقبلية.
أولاً ـ مؤسسات نشر المعرفة (الإعلام والتعليم):
تواجه عمليات نشر المعرفة في البلدان العربية صعوبات عديدة من أهمها قلة الإمكانات المتاحة للأفراد والمؤسسات والتضييق على حريات أنشطتها خصوصاً في مجال الإعلام. ومع ذلك حقق العالم العربي إنجازات كمية وكيفية ملموسة خلال النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع القرن الجديد. فقد ارتفع عدد المسجلين في مراحل التعليم الثلاثة من /5/ ملايين تلميذ إلى أكثر من /65/ مليوناً. وازداد عدد الجامعات من /8/ في خمسينات القرن العشرين إلى أكثر من /100/جامعة في أواخره. وقطعت العديد من الدول العربية أشواطاً مهمة في ميدان مكافحة الأمية. لكن وبالمتوسط العام ما يزال التعليم العربي يعاني من مجموعة كبيرة من المشكلات. فكمياً لم يتم استيعاب كل الأطفال العرب في التعليم الأساسي ما يعني استمرار تفشي الأمية خصوصاً بين الإناث، كما أن نسبة من ينتقلون إلى المراحل التعليمية الأعلى ما زالت منخفضة في الشرائح العمرية الموازية بالمقارنة حتى مع بعض البلدان النامية، كما وبالمقارنة مع احتياجات التنمية.
أما على مستوى نوعية التعليم العربي فما زال يعاني من تدني نوعيته ومن ضعف العلاقة التي تربطه بسوق العمل، الأمر الذي يقوّض واحداً من الأهداف الأساسية للتنمية البشرية المستدامة وهو الارتقاء بنوعية حياة البشر وتعظيم قدرات الناس.
ومن المعروف أن العتبة الدنيا الضرورية للحاق بمجتمع المعرفة والمعلومات تقضي التخلص من الأمية الأبجدية وتخفيض الأمية التكنولوجية إلى مستوى /20/% على الأقل من مجمل السكان وهذا يتطلب إعادة النظر نقدياً في المكونات الرئيسية لنظام التعليم، أي السياسات التعليمية وأعضاء هيئة التدريس والمعلمين، فضلاً عن تحسين شروط عمل هؤلاء ومراجعة المناهج الدراسية والمقررات الدرسية وصولاً إلى منهجيات التعليم. وهذا يشمل مدخلات العملية التعليمية التي ستؤثر بصورة مباشرة على مخرجات التعليم ونوعيته.
ودون اقتناع النخب السياسية العربية وراسمي السياسات التنموية بأن الاستثمار في مناجم العقول هو الاستثمار الأمثل والأكثر جدوى وفاعلية وديمومة الأمر الذي يتطلب تحولاً جذرياً في الإنفاق على الميكانزمات التنموية الأساسية وخصوصاً التعليم والبحث العلمي، فإن الأمل ضعيف في دخول مجتمع المعرفة من باب المشاركة والإسهام الفعال في العصر. وسينحصر موقعنا في أحسن الأحوال في استهلاك منتجات العلم والتقنية دون التمكن من المشاركة في إنتاجها.
وبالانتقال إلى وسائل الإعلام والاتصال الحديثة بوصفها إحدى أهم آليات نشر المعرفة على مستوى جماهيري، فإننا نلاحظ أن الإعلام العربي ما يزال في غالبيته يعاني من ضعف بنيته التحتية ومضامينه، وتعرقله قوانين وتشريعات تحد من حريته وفاعليته وتؤثر على دوره في أداء رسالته الحضارية. وباستثناء بعض الفضائيات العربية التي تمكنت من توفير كفاءات مهنية معترف بها وهامش من الحرية النسبية الضروري للنجاح والاستمرار، ما يزال الإعلام العربي يعاني العديد من المشكلات تجعله دون مستوى تحدي بناء مجتمع المعلومات. إذ لا يزيد عدد الصحف في البلدان العربية عن /53/ صحيفة لكل /1000/ شخص، مقارنة مع /285/ صحيفة لكل /1000/ شخص في الدول المتقدمة. والصحافة العربية عموماً محكومة ببيئة تتسم بتقييد حرية التعبير والرأي. وما التعطيل عن الإصدار والضبط والمصادرة والتعرض لعقوبة الحبس أو الإيقاف عن ممارسة المهنة، سوى أمثلة عن الصعوبات التي تواجهها الصحافة ووسائل الإعلام في الدول العربية. (7)
مع ذلك شهد الإعلام العربي في السنوات الأخيرة تحولات إيجابية يصعب تجاهلها. فدخول عنصر المنافسة وكسر احتكار الإعلام الرسمي حرك الجمود وأدخل بعض الصحف والفضائيات العربية في منافسة قوية مع مثيلاتها في العالم، وخلق حراكاً إعلامياً أسهم في تكوين رأي عام عربي بدأ في التبلور خصوصاً في المسائل والقضايا العامة التي تشكل قواسم مشتركة بين المواطنين العرب. بهذا المعنى يمكن لهذه الحركة الإعلامية أن تلعب دوراً إيجابياً ومؤثراً خصوصاً وأنها تخاطب وباللغة العربية الشريحة الأوسع من المواطنين وتنفذ إلى كل بيت عربي.
ثانياً ـ مؤسسات إنتاج المعرفة (البحث العلمي):
تعتبر مؤسسات نشر المعرفة العربية، رغم كل صعوباتها، في وضعية أفضل بكثير من مؤسسات إنتاج المعرفة وخاصة في مجال البحث العلمي، إذ تبين المعطيات المتوفرة تواضع أعداد العلماء والباحثين في المجتمع العربي مقارنة بنظرائه في البلدان المتقدمة. فبينما يصل عدد العلماء والفنيين في الدول المتقدمة إلى /4/ علماء ولكل 1000/ من السكان، فإنه لا يتجاوز عالم واحد لكل /1000/ من السكان حسب تقرير التنمية البشرية لعام (1997)، كما يشير تقرير التنمية الإنسانية العربية الثاني للعام (2003) إلى نسبة قريبة وهي /371/ لكل مليون من السكان مقابل /979/ لكل مليون من السكان أي أقل من المعدل العالمي بكثير، فالثورة العلمية التقنية اخترقت كل الحواجز والحدود وأصبحنا نعيش المجتمع التخيلي/ الافتراضي (Virtual society) الذي يتعامل فيه الناس دون أن يلتقوا وجهاً لوجه.
*أهمية التعليم والبحث العلمي (حالة سورية):
تتألف منظومة المعرفة من بنى رمزية تشمل المعطيات والمعلومات والأفكار والإجراءات التي يمتلكها الأفراد والمجتمع ككل. بهذا المعنى تنطوي منظومة المعرفة على كل ما يدخل في تشكيل البنى الرمزية مثل التعليم والتدريب والخبرة المكتسبة والخبرات المكتسبة حياتياً وعملياً.
إن مكونات المنظومة المعرفية والتي تتمحور حول بناء رأس المال المعرفي من خلال أدوات إنتاج المعرفة أي البحث والتطوير، والعلوم والآداب، وتقانة المعلومات والاتصالات. إلى جانب أدوات الحصول على المعرفة ونشرها مثل التعليم والتدريب، والإعلام والترجمة والنشر. ولا غرابة أن يحتل البحث والتطوير(R & D) طليعة تلك المحفزات بنسبة /35/% نظراً لأثره المباشر وقدرته على إنتاج معارف جديدة. يليه من حيث الأهمية التعليم بمراحله المختلفة الجامعي والثانوي والأساسي والذي تتراوح نسبة تحفيزه بين /32/% للأساسي و/33/% للثانوي بينما تصل هذه النسبة إلى /37/% للتعليم الجامعي. وتأتي في المرتبة الثالثة الكتب المترجمة والمؤلفة /32/% و/33/% على التوالي.
أما عن المستوى التعليمي للقوى العاملة في “سورية”، فإن المعطيات المتوفرة تبين أن /50/% من الموظفين السوريين البالغين مليون شخص لا يتعدى تحصيلهم العلمي المرحلة الثانوية بما في ذلك الشهادة الإعدادية والابتدائية والملمين بالقراءة والكتابة.
في حين تبلغ نسبة حملة الدبلوم التقني أي المعاهد المتوسطة /31/% من المجموع. بينما يحمل /17/% من هؤلاء الإجازة الجامعية. ولا تتعدى نسبة حملة الماجستير والدكتوراه /03/% و/02/% على التوالي، أي أن عدد الحاصلين على شهادات الماجستير والدكتوراه بين الموظفين السوريين يبلغ حوالي /5000/ خمسة آلاف شخص وهي نسبة منخفضة. وبالرغم من تفسير البعض لانخفاض مؤهلات الكادر الحكومي ويعزوه إلى منافسة القطاع الخاص الذي يستقطب الخبرات والكوادر البشرية المدرّبة بالنظر إلى ما يقدمه من حوافز مادية، إلا أن هذه المعطيات تدلل بوضوح على أهمية مراجعة معايير آليات التوظيف، وإعداد خطط واستراتيجيات تمكننا من الاستفادة من المؤهلات والخبرات العالية في إطار العمل الوظيفي.
لكن دراسة جديدة حول إمكانيات النمو الاقتصادي المستدام في “سورية”، كانت قد قدرت مساهمة رأس المال البشري في الناتج المحلي كجزء من مساهمة العمالة في الناتج كما يلي:
نسبة مساهمة رأس المال البشري = نسبة مساهمة العمالة (حصة الأجور من الناتج) * نسبة الحد الأدنى للأجور مقسوماً على وسطي الأجور. أي أن كل الأجور التي تدفع بعد الحد الأدنى تكون نتيجة لعدد سنوات التحصيل العلمي أو التدريب والخبرة في العمل، وهي تندرج في إطار تكوين الرأسمال البشري. وكانت النتيجة أن نسبة مساهمة الرأس مال البشري في سوريا تتراوح بين /10-15/% من الناتج المحلي. أما بمعيار عدد سنوات دراسة القوى العاملة فقد بلغت /7.5/ سنة في “سورية” بينما تبلغ /12/ سنة في “الولايات المتحدة الأمريكية”.
ولاحظ الباحث أن كل سنة في الكلية تزيد الدخل بمقدار /10-15/% في “أمريكا”، بالمقابل تزيده بحوالي /3.5/% في القاع العام في “سورية”، الأمر الذي يؤكد أهمية إعادة النظر بمعايير واستراتيجيات التوظيف. فهذه النسبة المنخفضة لمساهمة التعليم في زيادة الدخل، أضعفت حافز التعليم الذي يعتبر أهم محركات التنمية المستدامة كما تؤكد تجارب عديدة في أوروبا وأمريكا وآسيا. وسنأخذ على سبيل المقارنة وكنموذج واضح الدلالة تجربة سنغافورة في التعليم.
- نظام التعليم في سنغافورة ـ نموذج الجودة النوعية:
توضح دراسة تفصيلية قام بها “دافني بان” بعنوان (نموذج الجودة النوعية في نظام التعليم السنغافوري)، أهمية العلم بوصفه مدخلاً رئيسياً لمجتمع المعرفة. يعتقد “بان” أن الكفاح طويل الأمد من أجل النجاح الاقتصادي سيكون في صلب الفصل الدراسي أكثر منه في سوق العملات. لهذا لجأت “سنغافورة” هذا البلد الآسيوي الصغير إلى التعليم بوصفه قوة الدفع الاستراتيجية الرئيسية من خلال تبني سياسة الجودة النوعية في التعليم، ومن خلال تخصيص/3/% من الناتج المحلي الإجمالي (GDP) أي ما يقارب /2.3/ مليار دولار أمريكي في مجال تطوير التعليم.
وبعد الاستقلال مباشرة سنة (1959)م حدث توسع سريع في التعليم استجابة للأهداف الوطنية الاقتصادية والاجتماعية، كما تم تكثيف الجهود لأجل:
ـ تنفيذ التعليم الإلزامي المجاني، مع مزيد من المدارس الثانوية.
ـ مزيد من التركيز على تدريب المعلمين.
ـ مزيد من الاهتمام بتطوير البحوث والمناهج التعليمية.
ـ استحداث سياسة الازدواج اللغوي (الإنكليزية واللغة الأم) لزيادة الإنتاجية والانسجام الاجتماعي والتماسك الوطني.
ـ التركيز على الرياضيات والعلوم والمواد التقنية. وإقامة المدارس للتدريب على الجوانب المهنية والتقنية والتجارية لتوفير قاعدة قوى عاملة لخدمة التصنيع.
ثم جرت عملية مراجعة لهذه الأسس وتصويبها بحيث لا يقتصر التعليم على زيادة طاقات الفرد وقدراته، بل يتعدى ذلك إلى مجتمع مبدع ومفكر ومجدد مع مهارات مرنة في كل مستوى من مستويات الاقتصاد.
أما في التسعينات فقد تم تبني إدارة الجودة النوعية للتعليم من خلال:
ـ تزويد الجميع بالتعليم برفع كفاءة رياض الأطفال، وتوفير ما لا يقل عن 10 سنوات من التعليم الأساسي.
ـ زيادة التمويل والحوافز التعليمية.
ـ اجتذاب المعلمين الجيدين وتعديل الرواتب.
ـ ضمان دخول /20/% من كل فئة عمرية إلى الجامعات و/40/% إلى المعاهد التقنية. وقد جاءت أرقام عام (1996)م لتؤكد تحقيق الهدف حيث بلغت نسبة المنتسبين إلى الجامعة /22/%، بينما كانت نسبة الملتحقين بالمعاهد /38/%.
ـ تخصيص /1.16/ مليار دولار أمريكي لإيجاد مدارس ذكية، بعد أن تأكد أن تقنيات المعلومات أداة تعليمية متفوقة.
ـ توسيع التعليم في الدراسات العليا والعمل على جعل الجامعات السنغافورية عالمية المستوى.
ـ مراجعة مناهج المراحل الجامعية الأولى لضمان ملاءمتها وحداثتها.
ـ استحداث استراتيجيات تعليم وتعلم تتسم بالتجديد والإبداع واجتذاب الطلبة الموهوبين.
ـ جعل “سنغافورة” مركزاً للتعلم مع استقطاب مشاركة علماء بارزين وتقديم المساعدة للبلدان الأقل تطوراً في المنطقة.
ـ التعاون مع العمال والنقابات وأصحاب العمل لتوفير التدريب المناسب ورفع الكفاءة.(8) أقترح ذكر أهم النقاط وليس سردها جميعها..
أما على مستوى النتائج الواقعية فقد كانت تجربة التعليم في “سنغافورة” مميزة على أكثر من صعيد. حيث يتفوق الطلبة السنغافوريون في أدائهم على المستويات الوطنية والعالمية، وينظر إلى التعليم بكل تقدير واحترام على كافة المستويات. فقد احتلت جامعة “سنغافورة” الوطنية المرتبة الثانية بين أفضل خمسين جامعة في “آسيا”. وقد أصبحت مقاييس التعليم في “سنغافورة” مستقرة وراسخة إلى درجة أن جامعة “كاليفورنيا الأمريكية” قد قررت استخدامها في تقويم مناهجها لمادة الرياضيات.
كما احتل الطلاب السنغافوريون المرتبة الأولى بين 45 دولة في دراسة الرياضيات والعلوم التي ترعاها الرابطة الدولية لتقويم التطوير التربوي. كما يفوز السنغافوريون سنوياً بالأولمبياد الدولي للرياضيات والكيمياء والفيزياء.
وبعد ذلك فقد تبنت سنغافورة ثلاث أولويات لنظام التعليم بالجودة هي، تطوير المهارات الفكرية وتعزيزها، واستغلال تقنيات المعلومات في التعليم والتعلم، إضافة إلى التعليم الوطني. فهل من الحكمة تجاهل هذه التجربة الغنية بالاستخلاصات والدروس والخبرات؟
لقد برهنت التجارب المتعددة أن التعليم على المستويين الفردي والمجتمعي هو أحد أهم أعمدة بناء أدوات المعرفة، وهو السبيل الأمثل لبناء الكادر البشري المؤهل، الأمر الذي يتطلب تحقيق تطوير نوعي في منظومة التعليم والتدريب كما دللت التجربة السنغافورية بوضوح.
والتطوير النوعي للتعليم قضية تستدعي مقوماتها وشروطها. ولعل في طليعة هذه الشروط اختيار أسلوب التعليم الإبداعي الذي يتجاوز أسلوب الحفظ والتلقين. ويكون دور الطلاب أساسياً في هذا الأسلوب حيث يطلب إليهم القيام بالتحليل والبحث واستنباط الحلول اعتماداً على المعلومات، فضلاً عن تشجيع التفكير الحر والمستقل بوصفه أحد مكونات التعليم النوعي.
وبما أن الموارد البشرية عالية التأهيل والكفاءة والخبرة، تعتبر من أهم مدخلات ومقومات العمل في الأنشطة العملية والتطويرية والابتكارية. فإن الارتباط يبدو وثيقاً بين حالة التعليم عموماً، والعالي منه على نحو خاص، وبين حالة إنتاج المعارف. فالتعليم بمراحله المختلفة يقوم بتكوين وإعداد باحثي وتقنيي المستقبل.
ولا يكتمل البحث في جودة التعليم أو التعليم النوعي إلا بالإجابة على السؤالين المركزيين التاليين وانطلاقاً من توجهات الفلسفة التربوية لعصر المعلومات وهما:
لماذا نعلّم ونتعلم؟
ثم ما هي مواصفات الإنسان ناتج التربية المنشودة؟
وبالرغم من غياب نظرية وإجابات مكتملة ونهائية حول الإجابات، إلا أن هناك اتفاق شبه نهائي حول ثلاث غايات أساسية للتعليم هي:
1 ـ إكساب المعرفة.
2 ـ التكيف مع المجتمع.
3 ـ تنمية الذات والقدرات الشخصية.
وقد أضاف مجتمع المعرفة بعداً تربوياً وتعليمياً رابعاً وهو ضرورة إعداد إنسان العصر لمواجهة متطلبات الحياة في ظل العولمة. وذلك من خلال تحقيق الغايات الأربع، والتي يتفق عليها التربويون ومعدو تقرير اليونسكو تحت اسم ((التعليم ذلك الكنز المكنون)) وهذه الغايات هي:
1 ـ تعلّم لتعرف.
2 ـ تعلّم لتعمل.
3 ـ تعلّم لتكون.
4 ـ تعلّم لتشارك الآخرين.
انظر الشكل
* الغايات الأساسية للتعليم:
بالرغم من اتفاق معظم المربين والمهتمين بمسألة التعليم على نقد الطرق التقليدية في التعليم والتي تعتمد أساساً على التلقين والحفظ، إلا أن البدائل العلمية لهذه الطرق العتيقة لم تتبلور بشكل كاف بعد. نعرض فيما يلي لتصور آخر مختلف.
تواجه التربية العربية موقفاً صعباً للغاية، فقد أصبح لزاماً عليها أن تجدد رؤيتها الفلسفية لمواجهة المتغير المعلوماتي في غياب فلسفة اجتماعية عربية، وقصور الوعي العام في إدراك الجوانب التربوية العديدة لظاهرة المعلومات وعولمتها، وقد سعى “عبد الله عبد الدايم” إلى تجاوز هذه الإشكالية، بأن خلص إلى مجموعة من المبادئ التربوية الأساسية التي تضمنتها استراتيجية تطوير التربية العربية.
تعلم لتشارك الآخرين
تعلم لتكون
تعلم لتعمل
تعلم لتعرف
المبدأ التربوي
المبدأ الإنساني: تأكيد مكانة الإنسان في نظام المجتمع، ونظام الوجود عامة.
المبدأ الإيماني: ترسيخ الإيمان بالله وبالديانات الأخرى.
المبدأ القومي: جعل العمل من أجل الوحدة العربية محوراً رئيسياً.
المبدأ الديموقراطي: تنمية التعاون بين المواطنين، والمساهمة في خير المجتمع وفي اتخاذ القرارات.
مبدأ التربية للعلم: ترسيخ العلم لدى المتعلم منهجاً ومحتوى والإسهام في البحث العلمي.
مبدأ التربية للعمل: الربط بين الفكر والعمل وإعداد المتعلم لمطالب العمل وتطوراته المستقبلية.
مبدأ التربية للحياة: توثيق الصلات بين التربية والمجتمع، وتمكين المتعلم من التطور باستمرار.
مبدأ التربية المتكاملة: تربية شاملة متوازنة لجميع الجوانب، متصلة من المهد إلى اللحد.
* مبدأ الأصالة والتجديد: تنمية الابتكار، والتمسك بخير ما في الماضي في صلته بالحاضر والمستقبل.
* مبدأ التربية للإنسانية: وحدة الجنس البشري والمساواة بين شعوبه، والأخوة والسلام والتعاون الدولي

**الشكل مصفوفة مبادئ التربية العربية وغايات التربية الأربع

تتفق معظم الآراء على أن تربيتنا الراهنة منحازة إلى غاية “تعلم لتعرف” على حساب الغايات الثلاث الأخرى، خاصة فيما يتعلق بغاية “تعلم لتكون”، التي تهدف إلى تنمية قدرات الفرد ومواهبه، والاحتفاظ بهويته والاعتزاز بذاتيته. ونظرة سريعة إلى مصفوفة المبادئ والغايات الواردة في الشكل تؤكد لنا مدى الأهمية التي أولاها “عبد الله عبد الدائم” لشق”تعلم لتكون” في قائمة مبادئه التربوية، وهو ما يتناقض جوهرياً مع ما أشرنا إليه بالنسبة لتوجهنا التربوي الراهن، ويعكس حدة الانفصال بين مبادئنا وواقعنا، وبين استراتيجياتنا وممارساتنا العملية.
*مستقبل مجتمع المعرفة:
تبشر الحقبة القادمة من تطور المعرفة عموماً والعلمية منها بشكل خاص بتأثيرات ونتائج سوف تكون أعمق وأشمل وأبعد غوراً من كل تلك الحقب التي سبقتها.
ومن الواضح أننا على أعتاب ثورة علمية أخرى. حيث تتضاعف المعرفة البشرية كل عشر سنوات. وقد أنتج العقد الأخير من القرن العشرين على سبيل المثال معرفة علمية أكثر مما خلفه التاريخ البشري بأكمله..
ومع أن الاهتمام بالمستقبل قد شغل الناس منذ أقدم العصور، فكانت (الكهانة) و (العرافة) وقراءة الكف والطالع والتنبؤ بالمجهول، إلا أن ذلك بقي في إطار الوعي الغيبي والأسطوري بالعالم، ولم يتحول إلى ميدان له معارفه وقوانينه إلا منذ فترة قصيرة نسبياً. حيث يمكننا اليوم الحديث عن (علوم المستقبل) أو (المستقبليات) التي تعمل على استشراف المستقبل عبر اجتهاد علمي منظم يهدف إلى صياغة مجموعة من التنبؤات المشروطة والتي تنطلق من بعض الافتراضات الخاصة حول الماضي والحاضر، لاستكشاف أمر دخول عناصر مستقبلية على المجتمع أو الظاهرة المعنية.(9)
بهذا المعنى نميز اليوم بين التنبؤ الغيبي والتنبؤ العلمي، فالأخير لا ينبع من فراغ ولا يأتي تلبية لميول ورغبات، بل ينجم عن فهم نواميس الكون وأحكامه مستعيناً بالاستنتاج والقياس والحدس، وقبل كل ذلك بالتجربة ونتائجها القابلة للقياس والتعليل.
وإذا كان التحول إلى قوة المعرفة والمعلومات مؤكداً، فإن معايير القوة التقليدية ـ الأرض ـ الموارد ـ القوة العسكرية ـ القوة الاقتصادية ـ لن تختفي ولكنها ستصبح ذات أهمية ثانوية.
لقد أدرك الأقوياء في عالم اليوم روح وآليات العصر، لذلك نراهم يتسابقون في مجالات تطوير البحث العلمي والبرمجيات وفي ميادين الاقتصاد المعرفي للاتصالات والذكاء الصناعي. ففي هذه الميادين سيكون صراع الأقوياء الذي يبدو بأنه سيكون صراعاً تكنولوجياً وعلمياً في المقام الأول، وسيدار على الأغلب بطرق سلمية تجنباً لإمكانية (الموت المفاجئ) الناجمة عن أسلحة الدمار الشامل البيولوجية والنووية في حال استخدامها. (11)
وبعيداً عن السيناريوهات المتفائلة والرؤيا التي تقدمها روايات الخيال العلمي للمستقبل، يمكن القول إن الكون بدأ يكشف لنا عن الكثير من أسراره وهناك الآن إمكانية لمعرفة المزيد من أسرار الحياة والتطبيقات الممكنة للعلم والتكنولوجيا بحيث بتنا أكثر قرباً من حلم “أينشتاين” بإيجاد “نظرية لكل شيء
* أثر ثورة المعلومات على التطور الديمقراطي في العالم العربي:
إذا كان العصر الراهن عصر ما بعد الحداثة فلسفياً، فإنه عصر المعرفة على صعيد العلم والتكنولوجيا. وحيث أن ثورة المعلومات والاتصالات تشكل واحدة من أبرز ملامح مجتمع المعرفة البازغ مع تنامي ظاهرة العولمة في العقدين الأخيرين، فإن رصد الآثار والتجليات القائمة والمحتملة لثورة المعلومات والاتصالات على عملية التحول الديمقراطي في العالم العربي الذي فوت المد الديمقراطي الذي شمل العديد من الدول والمناطق خلال ما سمي بالموجة الثالثة للتحول الديمقراطي، سيبقى أمراً على غاية الأهمية والراهنية.
فما هي انعكاسات هذه الثورة على نظم الحكم العربية؟ وإلى أي مدى يمكنها أن تشكل تحدياً للتسلطية ودعماً للانفتاح السياسي والتحول الديمقراطي في المنطقة؟ وما هي حدود تأثيراتها على بنية ودور المجتمع المدني في بلداننا، ثم ما هي نتائج كسر احتكار المعرفة من قبل الدولة، وكيف يمكن فهم دور التقنيات الحديثة في تأثيرها على الرأي العام؟
ينقسم الباحثون في الإجابة عن الأسئلة السابقة إلى موقفين أساسيين، يرى أصحاب الموقف الأول أن الانعكاسات التي تسببها الثورة العلمية في مجال الاتصالات والمعلومات باتت واضحة ومؤكدة ويصعب تجاهلها، بينما يرى أنصار الموقف الثاني أن آثار ونتائج هذه الثورة ما زالت محدودة التأثير وضعيفة الفاعلية لأسباب عديدة ووجيهة في رأيهم. (13)
يستند أصحاب الموقف الأول إلى خبرات عديدة برهنت التكنولوجيا من خلالها على فاعليتها في التأثير على مجرى الأحداث. فمنذ ما يزيد عن /5/ قرون ساهمت مطبعة “غوتنبرغ” في كسر الاحتكار الكهنوي للمعرفة عموماً وللكتاب المقدس بصفة خاصة، وبالانتقال إلى العصر الحديث يتضح الأثر الواضح لتقنية أشرطة الكاسيت وإسهامها المباشر في نشر خطب وتعاليم الإمام الخميني قبيل وبعد انتصار الثورة الإسلامية في “إيران”، وكان واضحاً الدور المركزي لأجهزة الفاكس في التغيرات التي شهدتها “روسيا” إبان (البروستريكا) ، وصولاً إلى تمكّن أنصار العولمة البديلة من الاستفادة القصوى من البريد الإلكتروني والإنترنت في حشد الأنصار وتعبئة المؤيدين من “دافوس” إلى “سياتل” إلى “جنوة” إلى “سيول” وغيرها. وهذه جميعها براهين تدلل بوضوح على الأثر البارز لوسائل الاتصال الحديثة والتقنيات المرافقة لها، وعلى قدرتها على توجيه الأحداث وصياغة الرأي العام صوب اتجاهات جديدة في قضايا البيئة والنساء والسلام وحقوق الإنسان ومناهضة الحرب. (14)
وبفضل ثورة الاتصالات والمعلومات أصبحت قضايا حقوق الإنسان ثقافة عالمية ونموذجاً إرشادياً (Paradigme) حاكماً وذلك من خلال التشبيك(Networking) بين المنظمات المدنية المحلية ونظيراتها في العالم.
ولا يخفي هؤلاء إعجابهم بقدرة الفضائيات وخصوصاً غير المملوكة للدول مثل MBC وART والجزيرة والعربية وغيرها، على تناول العديد من القضايا والمسائل الحساسة التي كانت تعتبر من المحرمات في المنطقة العربية وخصوصاً في ميداني السياسة والدين، فضلاً عن الحوارات والمسائل الإشكالية التي ناقشتها على الملأ وبدرجة كبيرة من الحرية والجرأة. وبصرف النظر عن التحفظات والانتقادات التي يمكن توجيهها لهذه الفضائية أو تلك، فمن المؤكد أن المشاهدين العرب قد عبروا عن حاجتهم إلى إعلام يتمتع بالمصداقية والمهنية يمتلك شعبية واسعة دفعت ببعض المحللين إلى القول بأن تأثير بعض الفضائيات كـ “الجزيرة” مثلاً يفوق تأثير أحزاب سياسية عريقة في العالم العربي، لدرجة دفعت قسم من المحللين والباحثين لتسميتها بإمبراطورية الجزيرة. (15)
بينما يعتقد أصحاب الموقف الآخر بأن تأثيرات ثورة الاتصالات ما زالت محدودة وأن مردودها ضعيف على التطور السياسي والديمقراطي في عالمنا العربي لأسباب عديدة، من أهمها: الموقع الهامشي للعرب على خارطة مجتمع المعلومات العالمي. فعدد المواطنين العرب الذين يمتلكون القدرة على الوصول والنفاذ إلى الوسائل الإعلامية والمعلوماتية الحديثة ما زال محدوداً. فضلاً عن الفجوة الرقمية ((Digital Gap)) التي تفصل بين من يمتلك المعلومة وإمكانية توظيفها وبين من يمتلكها بشكل جزئي ولا يسيطر عليها أو.
ويكفي أن نقارن بهذا الصدد بين ما يمتلكه العرب من مواقع إنترنت وأجهزة حاسوب بوصفها من المؤشرات الأساسية المعبرة عن الفجوة الرقمية، لنكتشف محدودية قدرتنا على الوصول إلى تقانات المعلومات وتطبيقاتها. فمقابل كل /18/عربي من كل /100/ من السكان يمتلكون حاسوباً يبلغ المتوسط العالمي /78.3/. ولا يزيد نصيب العرب من مستخدمي مواقع الانترنت عن /0.5/ % بينما يشكلون /8/% من إجمالي سكان العالم. هذا إلى جانب القيود المفروضة على الشبكة من قبل الحكومات، وقضايا الأمية ومعرفة اللغات الأجنبية.
تفسر هذه العوامل، إلى جانب القيود القانونية والمالية والرقابية التي تفرضها البلدان العربية، بنسب ودرجات متفاوتة، تدني إمكانية الاستفادة من مزايا التقدم العلمي التقني. فإذا ما أضفنا إلى العوامل السابقة جملة المشكلات البنوية التي تعاني منها الأحزاب وتنظيمات المجتمع المدني العربية والمتمثلة في ضعف قاعدتها الشعبية وابتعادها عن ممارسة الديمقراطية داخل تنظيماتها وفيما بينها، الأمر الذي أضعف مصداقية الشعارات الديمقراطية التي تطرحها وأفقدها الكثير من البريق والفاعلية، فإننا نستطيع أن نتفهم تشاؤم أصحاب هذا الاتجاه إزاء قدرة تقنيات المعلومات والاتصالات على التغيير البنيوي في مسار التحول الديمقراطي عربياً.
ومن هذا المنظور الجدلي فإني أعتقد أن لثورة المعلومات والاتصالات مفاعيل آنية ومحتملة توق التوقعات المتشائمة من منظور كسرها لاحتكار الدولة للمعلومات، ومن خلال مفاعليها الاقتصادية التي أسهمت بشكل واضح في إعادة تشكيل ملامح الاقتصاد العالمي وخصوصاً الاقتصاديات الجديدة القائمة على توظيف وإنتاج المعرفة بكفاءة، الأمر الذي ينجم عنه قيمة مضافة تفوق بعشرات المرات القيمة المضافة الناتجة عن الاقتصاد التقليدي. وقد بات في حكم المؤكد أن النجاح باقتصاد المعرفة والاستفادة من مزاياه التنافسية مرهون بعمليات الدمقرطة وضمان حرية تدفق المعلومات وتعزيز المشاركة السياسية للمواطنين بوصفها شرطاً لنجاح السياسات التنموية فغياب أو ضعف المشاركة يفسر فشل التجارب التنموية في بلداننا إلى حد بعيد.
وحيث أن ارتباط الإبداع (Motivation) والابتكار الفردي والمجتمعي بالحريات أصبح من الأمور الثابتة، فإننا نستطيع أن نفهم كيف تشكل الحريات الأكاديمية والمناخ البحثي الملائم عوامل جذب الكفاءات والعقول التي تهجر مجتمعاتنا وتذهب إلى جامعات الغرب ومراكز أبحاثه، فضلاً عن الإغراءات المادية والتسهيلات والتجهيزات التي توفرها تلك المجتمعات، وذلك مقابل عوامل النبذ وفقدان الخبرات وما ينجم عنها من ظاهرة هجرة الأدمغة (Brain drain) بكل ما تسببه من إهدار للموارد البشرية وخسارة يصعب تقدير قيمتها الفعلية. (16)
وتزداد المشكلة تعقيداً عندما يتلازم نقص الحرية مع نقص المعرفة كما يبين تقرير التنمية الإنسانية العربية الثاني للعام (2003) مضيفاً للنواقص السابقة نقص تمكين النساء، الأمر الذي يرجح السيناريو المتشائم الذي يرى بأن العرب، إذا ما استمروا في تعاطيهم الحالي، سيكونون في أحسن الأحوال على هامش مجتمع المعرفة العالمي. وتأسيساً على هذا الفهم يقترح التقرير رؤية استراتيجية تتضمن أركان مجتمع المعرفة الأساسية وفي أهمها: «إطلاق حريات الرأي والتعبير والتنظيم وضمانها بالحكم الصالح، والنشر الكامل للتعليم راقي النوعية، فضلاً عن توطين العلم وبناء قدرات ذاتية في البحث والتطوير التقاني، وصولاً إلى تأسيس نموذج معرفي عربي عام أصيل ومنفتح ومستنير». (17)
أخلص مما سبق إلى عدة ملاحظات ختامية:
إن المستقبل للمجتمعات التي ستشارك في توظيف وإنتاج المعرفة بكفاءة في شتى مناحي الحياة. فالمعرفة ثروة أو قوة في آن معاً.
يشكل مجتمع المعرفة مرحلة متقدمة من مراحل التطور الحضاري يطلق عليها توفلر الموجة الثالثة.
المداخل الأساسية للوصول إلى مجتمع المعرفة هي الإرتقاء بمؤسسات نشر المعرفة وأقصد المدارس والجامعات ووسائل الإعلام والترجمة ودعم مؤسسات إنتاج المعرفة وهي مراكز الأبحاث والتأليف إضافة إلى مؤشرات مثل نسبة السكان الحائزين على براءات اختراع ونسبة المشاركة في النشر العلمي ومؤسسات البحث العلمي والتطور التقاني.
لهذا فإن الترجمة تبقى قناة تواصل هامة مع العالم لكنها لا تستطيع لوحدها التأسيس لمجتمع المعرفة كما بينا سابقاً.
لدى العرب طاقات إبداعية كبيرة مهدورة بسبب غياب المناخ المناسب الذي يضمن الحريات البحثية والأكاديمية، كما وبسبب ضعف العمل المؤسساتي في ميادين إنتاج ونشر المعرفة، الأمر الذي يدفع بالعديد من الكفاءات إلى الهجرة.
تشكل هجرة الأدمغة والعقول واحدة من أخطر الظواهر، فهدر الموارد والإمكانيات يتجلى فيها بأوضح صورة وهي خسارة مزدوجة تزيد من الهوة أو الفجوة المعرفية التي تفصل مجتمعاتنا عن المجتمعات المتقدمة.
العرب أمام فرصة وتحد بنفس الوقت، والنتيجة مرتبطة بما سنفعله الآن وفي المستقبل، فالمستقبل ليس مكاناً نذهب إليه، بل خياراً نصنعه بأنفسنا اعتماداً على كيفية استثمارنا لطاقاتنا وعلى قدرتنا على الاستفادة منها ومن تجارب الآخرين.
…………………………………………………
* المراجع والمصادر
ـ رأفت رضوان: النظام الدولي للمعلومات، موقع الوطن العربي على خريطة العالم الجديد، سلسلة قضايا استراتيجية، المركز العربي للدراسات الاستراتيجية، العدد 12، تشرين الثاني، 1997.
ـ تقرير التنمية الإنسانية العربية 2003.
ـ الكتاب السنوي للتنافسية الدولية ـ 1997.
ـ http://writers.alriradh.com.sa/kpage
ـ Keen، P.G.W: Shaping The Future، Harrard Business Schod press، Boston Mass، 1991.
ـ ميتشيوكاكو: رؤى مستقبلية، كيف سيغير العلم حياتنا في القرن الواحد والعشرين، ترجمة د. سعد الدين خرفان، مراجعة محمد يونس، سلسلة عالم المعرفة، العدد 270، الكويت، 2001.
- Alvin Toffler: Future Shock، Bantam Book، 8th Edition، New York، 1970، page 26.
ـ آلان توميسون: نحو فهم المستقبلية، ترجمة ياسر الفهد، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1983.
ـ ميتشيو كاكو، رؤى مستقبلية، كيف سيغير العلم حياتنا في القرن الواحد والعشرين، ترجمة د. سعد الدين خرمان، مراجعة محمد يونس، سلسلة عالم المعرفة، العدد 270، يونيو، 2001 ص 15 ـ 16.
ـ حسنين توفيق إبراهيم: ثورة المعلومات والتطور الديمقراطي في العالم العربي، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، كراسات استراتيجية، السنة الرابعة عشرة ـ العدد 139 ـ مايو 2004.
ـ مجموعة باحثين: ثورة المعلومات والاتصالات وتأثيرها في الدولة والمجتمع بالعالم العربي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبو ظبي، 1998.

هناك تعليق واحد: